حين لا تصرخ المشاعر: كيف يبدو الانفعال في عالم التوحد؟

 

فيصـل مقضـب الـظفيـري

باحث في فلسفة التربية الخاصة واضطراب طيف التوحد

 والاضطرابات الانفعالية والسلوكية.

 

في كل طفل صامت قصة، وفي كل نظرة مشتّتة عالم كامل من الانفعالات التي لم تُمنح كلمات بين تعبيرٍ عاطفي غائب، وسلوكٍ مفاجئ منفلت، يقف الأب والأم، أو المربّي، أو حتى الأخصائي، عاجزًا أحيانًا عن فهم ما يحدث داخل هذا الطفل الذي يبدو “هادئًا”، لكنه في الحقيقة يعيش عاصفة من التداخلات النفسية والانفعالية.

حيث لدى الأفراد من ذوي اضطراب طيف التوحد (Autism Spectrum Disorder)، تتخذ المشاعر طريقًا آخر… فلا الانفعالات واضحة، ولا السلوك دائمًا متوقّعًا، ومع ازدياد الدراسات حول التوحد، بدأ يتضح أن نسبة غير قليلة من هؤلاء الأفراد تعاني أيضًا من اضطرابات انفعالية وسلوكية مرافقة، ما يضاعف من التحديات التربوية والنفسية، ويطرح أسئلة عميقة حول طرق التشخيص والتعامل والعلاج.

بحسب التصنيف الأمريكي DSM-5 (American Psychiatric Association, 2013)، فإن اضطراب طيف التوحد يتّسم بضعف في التواصل الاجتماعي، ووجود أنماط سلوكية مقيدة ومتكررة، لكن ما لا يُذكر كثيرًا هو أن العديد من الأطفال المصابين بالتوحد يعانون من مشكلات في التنظيم الانفعالي، والقلق، والتقلبات المزاجية، وهو ما يجعلهم عرضة لما يسمى “بـالتشخيص المزدوج”.

فـفي دراسة (Simonoff et al.2019) وُجد أن أكثر من 70% من الأطفال المصابين بالتوحد لديهم عرض أو أكثر من أعراض الاضطرابات النفسية والانفعالية، وأن حوالي 41% منهم ينطبق عليهم تشخيص مزدوج، مثل اضطراب القلق أو اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD).

إن الاضطرابات الانفعالية والسلوكية (Emotional and Behavioral Disorders) تمثل مجموعة واسعة من التحديات التي تؤثر على قدرة الطفل على التكيف، مثل العدوان، الانسحاب الاجتماعي، الانفجارات الغاضبة، اضطرابات القلق، والاكتئاب.. هذه الاضطرابات تظهر أحيانًا بشكل مختلف تمامًا عند الأطفال المصابين بالتوحد، مما يجعلها أكثر تعقيدًا في الاكتشاف وأصعب في التدخل التربوي (White et al., 2020).

فبينما قد يُظهر الطفل تقلبات لفظية، أو يُعبّر عن حزنه، نجد الطفل التوحدي – إذا كان غير ناطق أو لديه تأخر في مهارات التعبير – يعبّر عن الضيق من خلال ضرب الرأس، أو الصراخ، أو الانسحاب الكامل!  هنا.. يتحوّل السلوك إلى وسيلة للتواصل، ولكنها وسيلة يخطئ كثيرون في تفسيرها، فيتعاملون معها كعناد أو عنف، وليس كمؤشر انفعالي يستحق التفكيك والفهم.

ومن هنا تتضح الإشكالية الكبرى.. عندما يتقاطع التوحد مع الاضطرابات الانفعالية والسلوكية، فإن الطفل يعيش نوعًا من الانفصال عن العالم من جهة، وصراعًا داخليًا محتدمًا من جهة أخرى، فضعف المرونة العصبية، وقصور نظرية العقل (Theory of Mind)، والانخفاض في مهارات التنظيم الذاتي، كلها عوامل تجعل الطفل غير قادر على إدارة المواقف الاجتماعية أو الانفعالية، ويظهر سلوكًا يبدو للبيئة المحيطة غير مبرر.

تقول دراسة Mazefsky et al.2014)) إن الأفراد المصابين بالتوحد يعانون من قصور واضح في استراتيجيات التنظيم الانفعالي، وإن هذا القصور يُعد مؤشرًا قويًا لاحتمالية تطوّر اضطرابات مرافقة مثل القلق أو الاكتئاب.

ومع ذلك، لا تزال الأنظمة التربوية التقليدية تفتقر إلى برامج تخصصية واضحة في التعامل مع هذه الحالات المزدوجة، وغالبًا ما يتم تصنيف السلوكيات الظاهرة كـ “مشكلات سلوكية” تستدعي العقاب أو العزل، بدلًا من النظر لها كنداءات صامتة من طفل لا يجد اللغة المناسبة ليُعبّر بها.

أما في الواقع.. قد تكمن الخطورة هنا في غياب التمييز بين السلوك كتعبير انفعالي، والسلوك كخلل قيمي أو تربوي، فعندما لا يستطيع المربّي أو المعلم قراءة الرسائل العاطفية وراء العدوان أو الصراخ أو الرفض، يصبح التدخل غير مناسب، بل وربما يزيد الوضع سوءًا.

في هذه المرحلة تبدأ الصعوبات بالتراكم: انخفاض في الدافعية للتعلم، اضطراب في العلاقات الاجتماعية، زيادة في العزلة والانغلاق، تراجع في القدرات التواصلية.. وتبدأ البيئة (المدرسية أو المنزلية) في تفسير كل ذلك على أنه “سوء فعل” أو “ضعف انضباط”، بدلًا من إدراك أن هناك نظامًا انفعاليًا عصبيًا يعمل بطريقة مختلفة تمامًا.

ومع تزايد التحديات.. يتزايد أيضًا العبء على الأسرة والمعلمين والأخصائيين، وتتضاعف الحاجة إلى تدخلات علاجية وتربوية قائمة على فهم العلاقة بين التوحد والانفعال، وليس فقط على ضبط السلوك الظاهري.

في عمق التجربة الإنسانية لاضطراب طيف التوحد، تكمن طبقات خفية من المعاناة النفسية والانفعالية التي لا تُرى بالعين المجردة، فخلف الصمت الظاهري، أو التكرار الحركي، أو التفاعل الاجتماعي المحدود، قد تختبئ اضطرابات انفعالية حادة، كاضطرابات القلق، أو نوبات الغضب غير المسيطر عليها، أو حتى الاكتئاب المقنّع.

فهذا التداخل بين طيف التوحد والاضطرابات الانفعالية والسلوكية يُعرف علميًا بمفهوم التشخيص المزدوج (Dual Diagnosis)، ويُعد من أبرز التحديات في العمل التربوي والعلاجي مع هذه الفئة.

حيث تشير البحوث الحديثة إلى أن الأطفال والمراهقين المصابين بالتوحد يُظهرون معدلات مرتفعة من الاضطرابات الانفعالية المصاحبة. فقد وجدت دراسة Kerns et al. 2015) ) أن أكثر من 40% من الأطفال الذين تم تشخيصهم بطيف التوحد يعانون من اضطراب القلق العام أو أشكال مختلفة من الرهاب، في حين أظهرت دراسة حديثة أجراها Anderson et al. 2020)) أن مشكلات الغضب والانفجار الانفعالي تؤثر على أكثر من نصف هؤلاء الأطفال.

ولكن ما يجعل هذا الارتباط أكثر تعقيدًا هو أن الخصائص النمائية لاضطراب طيف التوحد قد تخفي أو تُعيد تشكيل الأعراض الانفعالية… فالسلوكيات النمطية، أو الانسحاب الاجتماعي، أو التكرار، قد تكون تعبيرًا غير مباشر عن قلق أو توتر داخلي، فـفي البيئة التعليمية، يظهر الأثر جليًا فالطفل ذو التوحد الذي يعاني من اضطراب انفعالي مضاف، قد يرفض الجلوس داخل الفصل، أو يواجه صعوبة في الانتقال بين الأنشطة، أو يُظهر سلوكًا عدوانيًا عند تغيير روتين مألوف.

وعلى مستوى الأسرة، فإن الآباء يجدون أنفسهم في مواجهة تحدٍ مزدوج: التعامل مع اضطراب نمائي معقّد من جهة، والاحتواء النفسي لانفعالات غير مفهومة من جهة أخرى.

فإن الإشكالية لا تكمن فقط في تراكم الاضطرابين داخل الطفل، بل في غياب منظومة تشخيص وتدخل تتعامل مع الكل المعقّد، لا مع أجزاء منفصلة من السلوك! فالتربية الحديثة تتطلب رؤية تكاملية، ترى في كل سلوك ظاهر انعكاسًا لجهاز انفعالي داخلي مضطرب.

وفي ظل ما يعانيه الأفراد من ذوي اضطراب طيف التوحد، خصوصًا حين يقترن هذا الاضطراب بتحديات انفعالية وسلوكية، تبرز الحاجة إلى تدخلات تربوية وعلاجية تتجاوز الأساليب التقليدية.

من أبرز المقاربات الناجحة ما يُعرف بـالدعم السلوكي الإيجابي (PBS)، والذي لا ينظر إلى السلوك بوصفه مشكلة يجب قمعها، بل كمؤشر يحتاج للفهم والتفكيك، حيث وُجد أن برامج PBS تقلل من السلوك العدواني بنسبة تصل إلى 60% لدى الأطفال ذوي التوحد (Carr et al., 2002؛ Koegel et al., 2014).

إلى جانب ذلك.. أظهرت البرامج المعرفية السلوكية (CBT) فعالية ملحوظة في معالجة القلق والاكتئاب لدى الأطفال ذوي التوحد، خصوصًا عند تعديلها لتناسب احتياجاتهم الإدراكية والتواصلية (Wood et al., 2009).

كما تتشكل أهمية العمل على التشخيص المزدوج، وتصميم خطط فردية متعددة التخصصات، وتدريب المعلمين على قراءة السلوك بوصفه تعبيرًا انفعاليًا، والعمل من خلال تحليل السلوك التطبيقي، ودعم الأسرة نفسيًا وتربويًا، والتدخل المبكر الذي يشتمل على التقييم الدقيق للطفل، وتبني بيئات تعليمية مرنة، يسهم في تحسن وفهم مشاعر وسلوك الطفل.

وفي الختام:

إن معالجة التداخل بين اضطراب طيف التوحد والاضطرابات الانفعالية والسلوكية ليست مجرد استجابة لتحديات سلوكية.. بل هي مقاربة شمولية لفهم الإنسان في عمق معاناته النفسية والانفعالية، فالسلوك الذي قد يبدو غريبًا أو مزعجًا للآخرين ما هو إلا انعكاس لاحتياجات لم تُفهم، أو مشاعر لم تُعبَّر عنها، أو بيئات لم تكن آمنة بالقدر الكافي، حيث هنا تكمن الخطورة في الاقتصار على تعديل السلوك بمعزل عن فهم دوافعه الانفعالية، إذ قد ننجح في تقليل الظاهرة للسلوك! ولكن.. نفشل في دعم الكيان الداخلي للطفل.

لقد بيّن هذا المقال.. استناداً على دراسات علمية أن نسبة معتبرة من الأفراد ذوي اضطراب طيف التوحد يعانون اضطرابات انفعالية مصاحبة، مثل القلق، والاكتئاب، واضطرابات التكيف، وأن هذه الاضطرابات تؤثر سلبًا على التفاعل الاجتماعي، والتحصيل الدراسي، ونوعية الحياة…

الأمر الذي يفرض على العاملين في مجالات التربية الخاصة، والمجالات الصحية، والأسرة، تطوير فهم متكامل لا يختزل الطفل في سلوكه، بل يعيد بناء العلاقة معه من خلال التفهم والتعاطف والاستجابة العلمية.

إن أهم رسالة ينبغي أن نغادر بها هذا المقال، أن الطفل التوحدي الذي لا يصرّح بمشاعره، يحتاج منّا أن نصغي إلى صمته، أن ننظر إلى الانفعال لا بوصفه مشكلة، بل بوصفه مفتاحًا للفهم، وعليه فإن التدخلات المستقبلية الفعّالة هي تلك التي تدمج بين التشخيص المزدوج والدقيق، والدعم الانفعالي، والممارسات المبنية على الأدلة، ضمن إطار تشاركي يجمع الأسرة والمدرسة والمجتمع.

بهذا الفهم العميق فقط يمكننا أن نحوّل الصمت إلى لغة، والسلوك إلى رسالة، ونمنح الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد فرصة ليكونوا مرئيين، مفهومين، ومحتضنين كما هم لا كما نتوقعهم أن يكونوا.

شارك المقال :

فكرتين عن“حين لا تصرخ المشاعر: كيف يبدو الانفعال في عالم التوحد؟”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تـابعنـا على

التصنيفات

Twitter feed is not available at the moment.